29  بيعة علي d وبيعة غيره

 

  ردا على القول بأنه لم تكن هناك بيعة صحيحة في التاريخ الإسلامي إلا لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

  قال : هذا كذب فإن أبا بكر الصديق لم ينازعه أحد في خلافته وكذا عمر وكذا عثمان أما علي فلم يبايعه أهل الشام وغيرهم وأكثر الصحابة لم يكونوا في المدينة لما بويع لعلي بالخلافة ولم تستقر الأمور له كما استقرت لأبي بكر وعمر وعثمان .

 

  نقول : قال ابن حبان في صحيحه : قال أبو حاتم ( رض ) : " قول عمر إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ولكن وقى الله شرها يريد أن بيعة أبي بكر كان ابتداؤها من غير ملأ والشيء الذي يكون من غير ملأ يقال له الفلتة وقد يتوقع فيما لا يجتمع عليه الملأ الشر فقال : وقى الله شرها " (1) .     

  ونقل ابن أبي عاصم في ( الآحاد والمثاني ) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا عقبة بن خالد نا شعبة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : لما رأى أبو بكر   ( رض ) تثاقل الناس عن بيعته قال : ألست أحق الناس بها ؟ ألست أول من  أسلم ؟ ألست صاحب كذا ؟ ألست صاحب كذا ؟ (2) .

 وروى الترمذي القسم الأخير بنفس الإسناد في ( السنن ) (1) ، وصححه الألباني .

 فأبو بكر بنفسه يحكي في الرواية أن هناك تثاقلا من الناس عن بيعته .

  أما عن تفصيل هذه البيعة فينقل البخاري خطبة عمر أيام خلافته يحكي أمر السقيفة : " وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه B إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم      رجلان صالحان فذكرا ما تمالى عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمـركم " (2) .

  فالرواية فيها تصريح من عمر بأن الأنصار وعلي والزبير كل هؤلاء خالفوا أبا بكر وعمر ، واستمر عدد كبير منهم على خلافهم كما سنبين . 

  بل في رواية ابن حبان عن ابن عباس يقول عمر : فبينما نحن في منزل رسول الله B إذ رجل ينادي من وراء الجدار : اخرج إلي يا ابن الخطاب ، فقلت : إليك عني فإنا مشاغيل عنك ، فقال : إنه قد حدث أمر لابد منك فيه إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا فيكون بينكم وبينهم فيه حرب ، فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار " (3) .

  فالروايات تتحدث عن احتمال وقوع حرب بين الصحابة ، ثم يأتي من يقول أن أبا بكر لم ينازعه أحد .

  وأما تفاصيل تلك المنازعة نجدها في تتمة رواية البخاري لقول عمر : " فقلت : والله لنأتينهم ، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم ، فقلت : من هذا ، فقالوا : هذا سعد بن عبادة  فقلت : ما له ، قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر" . 

  ثم يذكر عمر خطبة أبي بكر فيهم وقوله : " ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش " فيرد عليه أحد الأنصار قائلا : " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش " (1) .

  فالأنصار إذن لم يرضوا بكلام أبي بكر ، حتى بعد بيان فضل المهاجرين فأصر الأنصار على موقفهم .

  لذا يكمل عمر قائلا : " فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة فقلت : قتل الله سعد بن عبادة " (2) ، وفي رواية ابن حبان قال عمر " فقلت وأنا مغضب : قتل الله سعدا فإنه صاحب فتنة وشر " (3) .

  فكل ذلك يظهر أن سعدا لم يوافق ، بل كاد يهلك أو يقتل تحت الأقدام ، ويأتي هذا القائل ليقول أن أبا بكر لم ينازعه أحد .

  ثم تتابع رواية البخاري : " قال عمر : وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد " (1) .

  فالمعارضة لبيعة أبي بكر كانت واضحة من قبل الأنصار المجتمعين على سعد بن عبادة ، ولكن ما الذي حدث حتى تغيرت الأمور ؟

  يروي البخاري قول عائشة : " فما كانت من خطبتهما - أي أبي بكر وعمر - من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله       بذلك " (2) .

  فقد تدخل التخويف إذن والترهيب من عمر الذي ظهر في الهجوم على سعد بن عبادة المريض في ذلك الوقت ، وقد سمت عائشة إرادة الأنصار زعيما منهم نفاقا ردهم الله عنه بتخويف عمر إياهم ، كل ذلك ويقال أن أبا بكر لم ينازعه أحد في الخلافة .         

  وأما عن موقف بني هاشم فينقل البخاري : " عن عائشة أن فاطمة عليها السلام بنت النبي B أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله B فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي B ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها ، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر ، فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم وحدك ، فقال أبو بكر : وما عسيتهم أن يفعلوا بي والله لآتينهم " (1) .

  ورواه مسلم في صحيحه (2) .

  قال ابن حجر في ( فتح الباري ) : " وأما ما وقع في مسلم عن الزهري أن رجلا قال له : لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة قال : لا ولا أحد من بني هاشم ،   فقد ضعفه البيهقي بأن الزهري لم يسنده وأن الرواية الموصولة عن أبي سعيد    أصح " (3) .

  وقال البيهقي في ( السنن الكبرى ) : " قال معمر : قلت للزهري : كم مكثت فاطمة بعد النبي B قال : ستة أشهر فقال رجل للزهري : فلم يبايعه علي k حتى ماتت فاطمة o قال : ولا أحد من بني هاشم ، رواه البخاري في الصحيح من وجهين عن معمر ورواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وغيره عن عبد الرزاق .

  وقول الزهري في قعود علي عن بيعة أبي بكر ( رض ) حتى توفيت فاطمة o منقطع ، وحديث أبي سعيد الخدري ( رض ) في مبايعته إياه حين بويع بيعة العامة بعد السقيفة أصح ، ولعل الزهري أراد قعوده عنها بعد البيعة ثم نهوضه إليها ثانيا وقيامه بواجباتها والله أعلم " (4) .

  وكلام البيهقي الأخير عجيب فروايتا البخاري ومسلم صريحتان في أن عائشة هي التي تخبر عن امتناع علي d عن بيعته مدة ستة أشهر ، لذا قال ابن حجر في      ( الفتح ) : " وأشار البيهقي إلى أن في قوله ( وعاشت الخ ) إدراجا ، وذلك أنه   وقع عند مسلم من طريق أخرى عن الزهري فذكر الحديث وقال في آخره " قلت للزهري : كم عاشت فاطمة بعده قال : ستة أشهر " وعزا هذه الرواية لمسلم ، ولم يقع عند مسلم هكذا بل فيه كما عند البخاري موصولا والله أعلم " (1) .

  فالعجب لماذا يقال إدراج ولا يقال أنه موصول هنا مرسل هناك ؟!

  وعن ذلك قال التفتازاني في ( شرح المقاصد ) : " وأما توقف علي ( رض )      في بيعة أبي بكر ( رض ) فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة والحزن بفقد رسول الله B لم يتفرغ للنظر والاجتهاد فلما نظر وظهر له الحق دخل فيما دخل فيه الجماعة " (2) .

  نقول عجبا علي d لم يتفرغ للنظر والاجتهاد وهو الذي لم ينشغل بعد وفاة رسول الله B إلا بتجهيزه ، وأما من أخذ يصرخ بالناس أن رسول الله B لم يمت وإنما ذهب كما ذهب موسى ، ثم يمضي إلى السقيفة ليقف في وجه الأنصار هو الذي تفرغ للنظر والاجتهاد ؟! وهل يستغرق النظر والاجتهاد في تلك المسألة ستة أشهر ؟!

 وأما رواية أبي سعيد التي أشار إليها البيهقي فقد ذكرها هو في ( السنن      الكبرى ) (3) بسندين ، وقال ابن حجر في ( الفتح ) : " وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أن عليا بايع أبا بكر في أول الأمر " (4) .

  ولكن الظاهر أن ابن حبان لم يذكر الخبر في صحيحه بل ذكره الحاكم في             ( المستدرك ) " فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا     فسأل عنه فقام ناس من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر : ابن عم رسول الله B وختنه : أردت أن تشق عصا المسلمين فقال : لا تثريب يا خليفة رسول الله B فبايعه " (1) ، وسكت الذهبي عن الرواية .

  والأسانيد الثلاثة كلها تنتهي إلى أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك وثق من قبل ابن معين وجماعة ولكن ذكره العقيلي في ( الضعفاء ) وكذلك صاحب ( الكامل ) ، ولم يحتج به البخاري ، وقال : ابن حبان في ( الثقات ) : كان ممن يخطئ ، راجع ( الميزان للذهبي ) (2) .

  بل حتى داود بن أبي هند قال عنه ابن حجر في ( التقريب ) : " كانت يهم   بآخره " ، وقال عن وهيب بن خالد : " لكنه تغير قليلا بآخره " (3) .

  فمثل هذا السند يقول عنه البيهقي " وحديث أبي سعيد الخدري ( رض ) في مبايعته إياه حين بويع بيعة العامة بعد السقيفة أصح " (4) ، أي أصح مما ورد في الصحيحين ! فهل هي قواعد علمية تطبق أم أهواء ؟!

  والعجب من موقف كل من ابن خزيمة ومسلم الذي نقله البيهقي عن أبي علي الحافظ قال سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث فكتبته له في رقعة وقرأت عليه فقال : هذا حديث يسوي بدنة ، فقلت : يسوي بدنة ؟ بل هو يسوي بدرة  (5) .

  والأعجب قول ابن كثير في ( البداية والنهاية ) : " وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها B رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر ( رض ) كما سنذكره من الصحيحين وغيرهما " (1) .

  فالوارد في الصحيحين بسند متصل عن عائشة كما ذكرنا عبارة " ولم يكن يبايع تلك الأشهر " كيف لعاقل أن يجمع بين مثل هذه العبارة وما ورد في رواية أبي سعيد بقوله أنه جدد البيعة بعد ستة أشهر ، فالجمع يكون بين العام والخاص والمطلق والمقيد لا بين المتناقضين بايع ولم يبايع ؟! 

  ومن الجدير بالتأمل فيه هو ما كان من أمر فاطمة الزهراء j وعدم بيعتها لأبي بكر حتى وفاتها أو على الأقل عدم رضاها بخلافته ، بل ماتت وهي غاضبة عليه كما في الأحاديث الصحيحة ، في الوقت الذي يقول رسول الله B وفق ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال : " سمعت رسول الله B يقول : من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة  جاهلية " (2) .

  وكذلك ما نقله أبو يعلى في ( المسند ) قـال رسول الله B : " من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية " (3) ، وعلق عليه المحقق سليم حسين بقوله : إسناده حسن ، وعاصم هو ابن أبي نجود .

فهل مثل الزهراء j وهي سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة يمكن أن يتخيل فيها أنها تموت ميتة الجاهلية ؟ أم أن موقفها يثبت وجود إشكال في بيعة أبي بكر ، الأمر متروك لأولي الألباب والنهى ؟!  

  ونكتفي بالحديث عن بيعة أبي بكر لأن بيعة عمر ومن بعده بيعة عثمان مبنيتان عليها .

 

أما عن بيعة علي d فرأى الكاتب أن مما يؤخذ عليها :

       ·          لم يبايعه أهل الشام .

       ·          أكثر الصحابة لم يكونوا في المدينة .

       ·          لم تستقر له الأمور .

  نقول : أبو بكر لم يبايعه كل أهل الجزيرة ومنها مكة ، لم لا يعد ذلك قدحا في بيعة أبي بكر ، وهذه أحد الأدلة على أموية الكاتب وانتسابه إلى معسكر معاوية لأن ما ذكره هو إشكال معاوية على علي d ، وقد كفى الإمام d الإجابة على هذا الإشكال التافه في خطبته حينما قال : " ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثم ليس لشاهد أن يرجع ولا للغائب لأن يختار " (1) .

  وقال d في كتاب له إلى معاوية ، وهو يحج معاوية بنفس منطق من يؤمن بالشورى : " إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار " (2) .

  ولم يكن بالشام إلا معاوية ومن معه من الطلقاء الذين لا يصدق عليهم أنهم مهاجرون ولا أنصار ، ولم يقاتل مع معاوية من الصحابة إلا عدد قليل من مسلمة الفتح ( الطلقاء ) ومسلمة حنين وعدد من المختلف في صحبتهم بينما شهد مع علي ثمانمائة رضواني وبدري ، كما ينقل خليفة بن خياط في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال : شهدنا مع علي - يقصد صفين - ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان قال : قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر " (1) .

  فهل من يقاتل معه ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان تضعف بيعته بأن أهل الشام لم يبايعوه ، ] فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ (2) .

  وأما الموقف الصحيح لعلماء السنة من عدم مبايعة أهل الشام له d يذكره البيهقي في كتابه ( الاعتقاد ) قال : " واستدلوا على بغي من خالفه من أهل الشام بما كان سبق له من شورى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وبيعة من بقي من أصحاب الشورى إياه قبل وقوع الفرقة ، وأنه كان أحقهم بالإمامة بخصائصه ، وأنهم وجدوا علامة رسول الله B للفئة الباغية فيمن خالفه " (3) .

  فالقول بأن أكثر الصحابة لم يكونوا في المدينة تخرص .

فهذا ابن حجر يقول في ( فتح الباري ) : " وذلك أن عليا كان إذ ذاك إمام المسلمين وأفضلهم يومئذ باتفاق أهل السنة ، ولأن أهل الحل والعقد بايعوه بعد قتل عثمان ، وتخلف عن بيعته معاوية في أهل الشام ثم خرج طلحة والزبير ومعهما عائشة إلى العراق " (4) .

  فهل يقال بايعه أهل الحل والعقد لرجل لم يبايعه أكثر الصحابة ؟!

  ويذكر ابن العربي في ( العواصم ) أن قوما قالوا : " تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد وابن مسلمة وابن عمر وأسامة ، فيرد عليهم قلنا أما بيعته فلم يتخلف عنها ، وأما : بقوله نصرته فتخلف عنها قوم ، منهم من ذكرتم ، لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره " (1) .

  فابن العربي يقول البيعة لم يتخلف عنها أحد وهذا يقول أن أكثر الصحابة لم يبايعوه .

  ويقول السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) : " قال ابن سعد : بويع علي بالخلافة الغد من قتل عثمان بالمدينة ، فبايعه جميع من كان بها من الصحابة ( رض ) " (2) .

  فبيعة أهل الحل والعقد من الصحابة في المدينة للخليفة تجعلها تامة صحيحة عند علماء أهل السنة ولا يخل بصحتها عدم بيعة أهل الشام أو غيرهم بل مثل هذا التشكيك يسري على كل الخلفاء وإلا فأي منهم انتظر أهل المدينة في بيعته مجيء أهل البلاد الأخرى وبيعتهم ؟! وقد نبه الإمام d إلى ذلك فيما نقلناه .

  نعم ذكر ابن كثير في ( البداية والنهاية ) بعض الأسماء فيمن لم يبايع : " قال المدائني حدثني من سمع الزهري يقول هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا علياً ولم يبايعه قدامة بن مظعون وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة قلت وهرب مروان بن الحكم والوليد بن عقبة وآخرون إلى الشام (3) فهذه نماذج لمن لم يبايع .

  وأما عن بيعة طلحة والزبير يقول ابن حجر في ( فتـح الباري ) : " وأخرج إسحاق بن راهويه من طريق سالم المرادي : سمعت الحسن يقول لما قدم علي البصرة في أمر طلحة وأصحابه قام قيس بن عباد وعبد الله بن الكواء فقالا له : أخبرنا عن مسيرك هذا ، فذكر حديثا طويلا في مبايعته أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ، ثم ذكر طلحة والزبير فقال : بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة ولو أن رجلا ممن بايع أبا بكر خالفه لقاتلناه وكذلك عمر " (1) .

  ويقول في قصة اعتزال الأحنف بن قيس القتال : " فأخرج الطبري بسند     صحيح ، قال الأحنف : فلقيت طلحة والزبير فقلت : إني لا أرى هذا الرجل   - يعني عثمان - إلا مقتولا ، فماذا تأمراني به ؟ قالا : علي فقدمنا مكة فلقيت عائشة وقد بلغنا قتل عثمان فقلت لها : من تأمريني به ؟ قالت : علي ، فرجعنا إلى المدينة فبايعت عليا ورجعت إلى البصرة فبينما نحن كذلك إذ أتاني آت فقال : هذه عائشة وطلحة والزبير نزلوا بجانب الخريبة يستنصرون بك ، فأتيت عائشة فذكرتها بما قالت لي ، ثم أتيت طلحة والزبير فذكرتهما القصة ، وفيها قلت : والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين وحواري رسول الله B ، ولا أقاتل رجلا أمرتموني ببيعته ، فاعتزل القتال " (2) .

 

  هذا وقد ذكر مأخذا غريبا على خلافة علي d بقوله : " أنه لم تستقر الأمور له كما استقرت لأبي بكر وعمر وعثمان " .

  نقول : ما دخل عدم استقرار الأمور بالحروب إذا كانت البيعة تامة ، وهذه خلافة أبي بكر والتي استمرت مدة سنتين ابتدأت بحروب الردة ، فهل هو مأخذ عليه ؟! وهل اعتبرت عدم استقرار الأمور لعثمان في أواخر خلافته يعد عيبا عليه ؟! نعم الفارق الذي نجده هو بغض علي d وإلا لا يلوح شيء آخر في البين ، وقد عهد رسول الله B إلى علي d إنه لا يبغضه إلا منافق كما في صحيح مسلم (1) .

 ويكفي الأمة شرفا أن خلافة علي d هي أهم فترة أبانت الحق وسط الشبهات والدسائس التي قام بها البعض ، ومع وضوح الحق وبيان رسول الله B له في كلماته التي ترويها الصحاح استبدت الحيرة بالعديد فضلّ بعضهم وتوقف آخرون واعتزلوا ، والأمر مستمر إلى الآن عند هؤلاء الذين يخطئون عليا d ويعذرون معاوية .

  فمن من الصحابة كانت له الجرأة في قيادة جيش يقاتل الناكثين ولو كان على رأسهم زوج الرسول B وبعض كبار الصحابة كطلحة والزبير ، لقد ذكر علي الزبير بقول رسول الله B : " تقاتله وأنت ظالم له " ، كما أن عائشة لم تمنعها كلاب الحوأب عن المضي في خروجها على أمير المؤمنين d .

  ومن كانت له الجرأة أن يوجه السيف للخارجين الزهاد والعباد في نظر العامة ويحارب قراء القرآن ذوي الجباه السود من السجود ممن قال عنهم رسول الله B  كما عن ابن كثير في تاريخه : " يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس قراءتكم إلى قرآتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " (2) ، وعرف الجميع أن عليا كان على الحق في قتاله للخوارج بعد مقتل ذاك المخدج الذي أخبر عنه رسول الله B كما في صحيح مسلم ، فكان علامة للخوارج الذين يجب قتالهم .  

  ومن منهم كانت له القدرة على الوقوف في وجه باطل القاسطين وعدم الانخداع برفع المصاحف ولم تؤثر عليه كل التشكيكات التي جعلت بعض كبار الصحابة يعتزل القتال ويعتكف في بيته ؟! حتى إذا قتل عمار وبانت الفئة الباغية ، ندم البعض على عدم مشاركته مع علي d في قتال معاوية .

  هذا وقد روي عن رسول الله B كما ينقل الحاكم في ( المستدرك على الصحيحين ) : " عن أبي سعيد ( رض ) قال : كنا مع رسول الله B فانقطعت نعله ، فتخلف علي يخصفها ، فمشى قليلا ثم قال : إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر ( رض ) ، قال أبو بكر : أنا هو؟ ، قال : لا ، قال عمر : أنا هو ؟ قال : لا ، ولكن خاصف النعل يعني عليا ، فأتيناه فبشرناه ، فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله    B " ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقال الذهبي : على شرطهما (1) .

  إن جملة " فاستشرف لها القوم " تبين سمو ذاك المقام الذي تمناه القوم ، والرواية في نفسها دليل على أن من يعلم تأويل القرآن من الصحابة علي d ، فلا يقاتل على التأويل ويكون الحق معه إلا من كان عالما بتأويله ، فهل بعد ذلك يمكن اعتبار عدم استقرار الأمور لعلي d تنقيصا له ؟

  وإذا أردت تفاصيل أكثر ذكرها رسول الله B عن قتال علي d على تأويل القرآن فيكفي ما رواه الحاكم في مستدركه عن أبي أيوب الأنصاري قال : " أمر رسول الله B علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (2) .

  وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) : " وعن علي قال : عهد إلي رسول الله B في قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وفي رواية أمرت بقتال الناكثين فذكره ، رواه البزار والطبراني في الأوسط ، وأحد أسنادي البزار رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد ووثقه ابن حبان " (1) .

قال ابن حجر في ( تلخيص الحبير ) : " قوله : ثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاة ، هو كما قال ، ويدل عليه حديث علي : أمرت بقتال الناكثين القاسطين المارقين ، رواه النسائي في الخصائص والبزار والطبراني ، والناكثين أهل الجمل لأنهم نكثوا بيعته ، والقاسطين أهل الشام لأنهم جاروا على الحق في عدم مبايعته ، والمارقين أهل النهروان لثبوت الخبر الصحيح فيهم أنهم يمرقون من   الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وثبت في أهل الشام حديث عمار تقتله الفئة الباغية " (2) . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(1) صحيح ابن حبان - ج2 ص152

(2) الآحاد والمثاني - ج1 ص76

(1) سنن الترمذي - ج5 ص611 رقم3748

(2) صحيح البخاري - ج8 ص210

(3) صحيح ابن حبان - ج1 ص232

(1) صحيح البخاري - ج8 ص210

(2) نفس المصدر السابق - ج8 ص211

(3) صحيح ابن حبان - ج1 ص232

(1) صحيح البخاري - ج8 ص211

(2) نفس المصدر السابق - ج5 ص9

(1) صحيح البخاري - ج5 ص177                  (4) السنن الكبرى للبيهقي - ج6 ص489 ( 12732)

(2) صحيح مسلم - ج3 ص1380

(3) فتح الباري - ج7 ص495

(1) فتح الباري - ج7 ص494                                        (4) فتح الباري - ج7 ص495

(2) شرح المقاصد - ج5 ص305

(3) السنن الكبرى - ج8 ص246 ( 143 )

(1) المستدرك على الصحيحين - ج3 ص76 (80 )           (4) السنن الكبرى للبيهقي -ج6 ص490 (301)

(2) ميزان الاعتدال - ج4 ص181                            (5) نفس المصدر السابق - ج8 ص446 (143)

(2) التقريب – ج1 ص283                                        

(1) البداية والنهاية - ج5 ص270

(2) صحيح مسلم - ج3 ص1478

(3) مسند أبي يعلى - ج13 ص366

(1) نهج البلاغة - الخطبة173

(2) المصدر السابق - كتاب رقم6

(1) تاريخ ابن خياط - ص118                                        (4) فتح الباري - ج6 ص617

(2) الحج : 46

(3) الاعتقاد - ص219

(1) العواصم من القواصم - ص150

(2) تاريخ الخلفاء - ص174

(3) البداية والنهاية - ج7 ص253

(1) فتح الباري - ج3 ص57

(2) نفس المصدر السابق - ج13 ص35

(1) صحيح مسلم - ج1 ص86

(2) البداية والنهاية - ج7 ص321

(1) المستدرك على الصحيحين - ج3 ص132

(2)  نفس المصدر السابق - ج3 ص150

(1) مجمع الزوائد - ج7 ص238

(2) تلخيص الحبير - ج4 ص1354 ( 44 )