13 آية المودة

 

  أي قوله تعالى : ] قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي        الْقُرْبَى [ (1) ، وخلاصة ما نقل عن ابن تيمية نفيه أن المقصود بالقربى هنا أهل البيت g لأمرين :

  الأول : قول ابن عباس : لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله منهم قرابة فالمعنى إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم .

  الثاني : أن الآية لم تقل إلا المودة لذوي القربى كما في قوله تعالى    ] فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [  (2) .

  ثم أن الرسول B لا يسأل أجرا كما لا يسأله سائر الأنبياء وإنما أجرهم على الله تعالى .

 

  نقول : أما ما يتعلق بالأمر الثاني أي الإشكالات اللغوية الواردة وهو قول ابن تيمية بأن الذي يدل على أن المقصود هو إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم أنه لم يقل لذوي القربى كما في قوله تعالى ] وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ وقيل جريا على ذلك بأن جميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي B وذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى ولم يقل في القربى .

 فإن كان الإشكال في لفظة ( في ) وأنه يجب أن يقال المودة لذوي القربى أو للقربى ، فقد بين الزمخشري حقيقة هذا الاستعمال في تفسيره ( الكشاف ) بقوله : " ( فإن قلت ) : هلا قيل إلا مودة القربى أو المودة للقربى ومعنى قوله إلا المودة في القربى   ( قلت ) جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقولك لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى وحب شديد تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله وليست ( في ) بصلة للمودة كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك المال في الكيس وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها والمراد في أهل القربى " (1) انتهى كلام الزمخشري .

  وذكر ذلك ابن حجر في ( الفتح ) فقال : " وعبر بلفظ ( في ) دون ( اللام )   كأنه جعلهم مكانا للمودة ومقرا لها كما يقال لي في آل فلان هوى أي هم مكان  هواي " (2) .

  وذكرنا لكلام الزمخشري وهو لغوي وبلاغي معروف لبيان أن الآية بصيغتها الفعلية عرضت مودة القربى بصورة بلاغية رائعة يفهمها أهل الاختصاص ، وأيد ذلك ابن حجر في ( الفتح ) كما نقلنا عنه .

  ثم إن الإشكال بهذه الصيغة يرد على تفسير ابن تيمية ، لأن الآية لم تقل إلا أن تودوني للقرابة التي بيني وبينكم وحقها على كلام ابن تيمية أن تكون بهذا الشكل لا " في القربى " كما هي في القرآن الكريم ، وإذا كان الزمخشري بين الوجه في العدول من ( اللام ) إلى ( في ) وأنهم جعلوا محلا للمودة ، فما هو وجهه على تفسير ابن تيمية ؟ إذ على التفسير الحق فإن الأقرباء هم محل للمحبة ، وهنا على تفسيره يوجد مصدر وهي القرابة ، فهل يريد أن يقول أن القرابة جعلت محلا  للمودة ؟ في حين على قوله المقصود هو مودة محمد B لا أن تودون القرابة إذ قال ابن تيمية " إلا أن تودوني " أي محمد B ، وعلى تفسيره تفقد النكتة البلاغية في العدول من ( اللام ) إلى ( في ) فتكون الأبعد عن السياق .

  وأما إذا كان الإشكال في استعمال لفظة القربى للدلالة على ذوي القربى ، وأن جميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي القربى إنما قيل فيها ذوي القربى ، وأنه لا يمكن أن يقصد بها إلا القرابة بمعنى المصدر .

 نقول : " إن العرب يقولون القربى ويقصدون الأقارب ، قال ابن حجر في الصفحة المذكورة : " وقوله ( القربى ) هو مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة والمراد في أهل القربى " ، وقال ابن منظور في ( لسان العرب ) مادة ( قرب ) : " التهذيب : والقريب والقريبة ذو القرابة والجمع من النساء قرائب ومن الرجال أقارب ولو قيل قربى لجاز " ، ثم أن أبيت ذلك فحذف المضاف لوضوحه معروف في القرآن وهذا قوله تعالى ] وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ (1) أجمع المفسرون أن المقصود أهل القرية ، وإذا كان القرآن ذكر في أغلب الموارد ذوي القربى ، فلا من التنويع وذكر القربى بدل ذوي القربى لما ذكرناه . 

  أما بالنسبة للأمر الأول فالرواية التي نقلها مذكورة في البخاري ، في تفسير سورة الشورى عن ابن عباس ( رض ) أنه سئل عن قوله ] إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد B ، فقال ابن عباس : عجلت إن النبي B لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيه قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة " (1) .

  والغريب أن مصادر السنة تنقل في المقابل روايات صحيحة عن ابن عباس تنافي الرواية السابقة ، منها ما في صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز قال كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن وعن ذوي القربى ، من هم ؟ فقال ليزيد اكتب إليه : " وكتبت تسألني عن ذوي القربى من هم ؟ وإنا زعمنا أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا " (2) .

 وللرواية ألفاظ أخرى في صحيح مسلم :

" فكتب إليه : إنك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكر الله من هم ؟ وإنا كنا نرى أن قرابة رسول الله B هم نحن ، فأبى ذلك علينا قومنا " .

  فالعجب كل العجب إن ابن عباس الذي يتأوه من تزوير المتنفذين من قريش لمعنى ذوي القربى وتوسعته بما يشمل كل قريش يأتي في آية المودة يؤيدهم ويوسع المعنى بما يشمل قريش كلها ؟!

  بل وردت الرواية بصيغة " فأبى علينا ذلك قومنا وقالوا : قريش كلها ذوو قربى " كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره (3) .

  وفي قبال تلك الرواية روى أحمد في ( فضائل الصحابة ) تصريحا بأن المقصود أصحاب الكساء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " لما نزلت ] قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ قـالوا : يا رسول الله من قرابتنا هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وابناها " (4) .

  فضلا عن ذلك فإن الحاكم نقل في ( المستدرك ) عن الإمام الحسن d قوله     " وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى : ] قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [ فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت " (1) .

  والتفاسير تذكر أن كبار التابعين كالإمام علي بن الحسين d وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب يذهبون إلى نزولها في أهل البيت g كما نقل عنهم ذلك ابن كثير في تفسيره قال : " وقول ثالث : وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم، وقال السدي عن أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين  nأسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة ، فقال له علي بن الحسين n أقرأت القرآن ؟ قال نعم قال أقرأت آل حم ؟ قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم ، قال ما قرأت ] قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[  ، قال : وإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم .

  وقال أبو إسحاق السبيعي سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى ] قُلْ  لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ فقال : قربى النبي B رواهما ابن جرير" (2) .

  فلماذا يؤخذ بما روى البخاري عن ابن عباس وتترك الرواية الأخرى المعارضة المنقولة عنه أيضا ، إضافة ما روي عن الإمام الحسن d وأقوال ثلاثة من التابعين الثـابتة عنهم ؟

  قال ابن حجر في ( فتح الباري ) : " والحاصل أن سعيد بن جبير ومن وافقه كعلي بن الحسين والسدي وعمرو بن شعيب فيما أخرجه الطبري عنهم حملوا الآية على أمر المخاطبين بأن يواددوا أقارب النبيB   " (1) ؟! الأمر يعود إلى إنصاف المرء نفسه لإدراك الحقيقة .  

  وأما ما ذكره الكاتب من أن الأنبياء لا يسألون أجرا على تبليغ الرسالة الإلهية بل أجرهم على الله فهذا صحيح إن قصد المعنى الحقيقي للأجر ، وعلى المعنى الحقيقي للأجر يجب أن يكون الاستثناء منقطعا في الآية ، فيصبح المعنى لا أسألكم أجرا أبدا فالنبي لا يطلب أجرا ولكن أسألكم وأطلب منكم مودة القربى ، كما في قوله تعالى ] قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [ (2) ، أي لا أسألكم أجرا ولكن أسألكم وأطلب منكم أن تتخذوا السبيل إلى الله ربكم .

  ولكن أي تلازم بين أن النبي لا يسأل أجرا ومنع أن يكون المقصود هو مودة ذوي قربى الرسول B ؟ ليكن الاستثناء منقطعا هل يمنع ذلك أن يكون المقصودون أهل البيت g ؟!       

  واحتمال أن يكون الاستثناء متصلا وارد ، وأنه B يسألهم الأجر تجوزا في الكلام لا أنه أجر حقيقة ، وهذا ما ذكره الزمخشري بقوله " يجوز أن يكون استثناءا متصلا أي لا أسألكم أجرا إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجرا في    الحقيقة " (3) .

 وقال ابن الجوزي في ( كشف المشكل ) :

" وفي الاستثناء قولان أحدهما من الجنس فيكون على هذا سائلا أجرا والثاني أنه استثناء منقطع " (1) .

  وقد صرح القرآن بوجود أجر لإبراهيم d في الدنيا حيث قال عز وجل        ] وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين [  (2)، فالله تعالى أعطاه أجرا في الدنيا وهذا الأجر لابد أن يكون من قبيل الظهور في الدين والانتصار على الكفار أو انتشار صيته أو جعله إماما للناس أو جعله وجعل ذريته أئمة للناس كما طلب ذلك بنفسه d في قوله تعالى ] وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [ (3) ، وهو الأصح والأقرب ، لذا قال البيضاوي في تفسيره : " ] وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ [ على هجرته إلينا ] فِي الدُّنْيَا [ بإعطاء الولد في غير أوانه والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم " (4) ، ومثل هذا الأجر الدنيوي العظيم والأخروي في حقيقته يعطى لأفضل الأنبياء وخاتمهم ، وصريح القرآن أن أجره B هو أعظم الأجر ] وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ [ (5) ، ونفعه لا يرجع إلا إلى الناس لأنهم يستفيدون من وجود الأئمة g . 

  وصحيح أن الأجر هو من الله كما في الآيات السابقة ولكن من الممكن بعد أن جعل أجره هو جعل الإمامة في ذريته ، أن يدعوهم لنصرته وأهل بيته وهذا لازم كونهم أئمة ، ويعتبر تلك النصرة أجرا للرسالة مجازا لا أنه أجر حقيقة ، ورسول الله B طلب النصرة من الناس مباشرة كما في قوله تعالى ] قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ ، وأما إبراهيم فقد طلبها من الله عز وجل حينما قال      ] فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [ أي وفق الناس للهداية من خلال الإقتداء بهم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



(1) الشورى : 23

(2) الأنفال : 41

(1) الكشاف - ج3 ص402

(2) فتح الباري - ج8 ص565

(1) يوسف : 82

(1) صحيح البخاري - ج6 ص162                                  (4) فضائل الصحابة - ج2 ص832

(2) صحيح مسلم - ج3 ص1445 كتاب الجهاد والسير باب النساء الغازيات

(3) تفسير ابن كثير - ج2 ص325

(1) المستدرك على الصحيحين - ج3 ص172

(2) تفسير ابن كثير - ج4 ص121

(1) فتح الباري - ج8 ص564

(2) الفرقان : 57

(3) الكشاف - ج3 ص402                   

(1) كشف المشكل - ج2 ص396                        (4) تفسير البيضاوي - ج2 ص208

(2) العنكبوت : 27                                        (5) القلم : 3

(3) البقرة : 124